
أعدّت أمّي شرائح الخبز المدهونة بالزّيت والزّعتر، لنأكلها ساخنة مع الشّاي المطعم بالميرميّة، تطلق أمّي لقب (نقاريش) على هذه الوجبة ، لم تكن تعلم بأنّني التهمت وجبةً مماثلةً لها في الصّباح وإلّا كنت نلت توبيخًا شديد اللّهجة منها، فهي تتوقّع منّي دومًا أن أبدأ صباحي بوجبة متكاملة، أعلم تمامًا بأنّ وجبة الغذاء اليوم ستكون ورق دوالي ( ورق عنب) فرائحته ملأت المكان مع رائحة الكستناء المشويّة، بدأت أمي تحدّثنا عن ذكرياتها بالقدس كعادتها قبل أن يبدأ الفيلم الّذي سنشاهده معها للمرّة المئة بناءً على طلبها، استهلّت حديثها هذه المرّة بأبي أحمد بائع الكعك الّذي كان يجوب بين حارات وأزقّة القدس ورائحة كعكه الشهيّة الّتي كانت تنتشر في كلّ الأرجاء، لعلّ من الجميل أن لدينا أبا يوسف بائع الكعك الّذي يشبه أبا أحمد في طيبته وقسماته حسب حديث أمّي، ننتظره كل صباح، كما كانت أمّي تنتظر أبا أحمد في صغرها، للأسف لم أره اليوم، يبدو أنّه لم يأت وإلّا كانت الكعكة في انتظاري، أبو يوسف يحبّه الصّغار، ينتظرونه بالدّقائق، ليلهو معهم، له أعمالٌ سحريّة لم تعد تنطوي علينا في كبرنا، كان يعمل حركات بيده، ليوهمنا أنّه قطع إصبعه، ثمّ ما يلبث أن يفاجئنا بعودة إصبعه إلى مكانها، كنّا نسأله باستغراب: كيف تفعل هذا يا عمّ (أبو يوسف)؟ وكيف لا تنزف إصبعك دمًا؟ فيجيب: هذه موهبة من الله يعطيها لمن يعشق أرضه، حينما كبرنا قلنا له يومًا: كم كنت تضحك علينا في صغرنا يا عمّنا الطيّب، يضحك، ثم يردّ: أنا لم أضحك عليكم، أنا فقط أُضْحِكُكُم، أنا لا أعرف الخداع يا أحبّتي هل تعلمون لماذا؟ لأنّني أعشق الأرض، من يعشق الأرض لا يضرّ أحدًا، إذن لماذا تركت الأرض يا أبا يوسف، وجئت هنا؟! أنا لم أترك الأرض، هي الّتي لفظتني حينما أهملتها، الأرض تعشق من يعشقها، فات الأوان على النّدم، لم نفهم ما كان يقوله أبو يوسف، أظنّه كان يهذي بين حين وآخر، قلت له يومًا: شوك الصبّار نخز إصبعي يا عمّي، وما عدت قادرة على تقليدك، ردّ عليّ: الصبّار يحنو على من يعشق الأرض، لا ينخز الصبّار عاشق الأرض، ما أكثر هذيانك يا عمّي (أبو يوسف). عدت إلى أمّي الّتي بدأت طرف الحديث لنكمله أنا ونور، ونعود إلى ذكرياتنا الطفوليّة كالعادة، مع حديثها استحضرت ذاكرتي مصطبة شبّاك جدّي الّتي كنت أجلس ونور عليها، لنراقب المارّين في الصّباح، وننتظر عندها بائع الكعك، المصطبة تتكوّن من الصّخر المنعم تمتدّ على الجانب السفليّ من الشبّاك، يظهر من خلالها سمك جدار البيت الّذي يلبس الحجارة القديمة الّتي تشتهر بها بيوت القدس، بدأنا أنا ونور نسرد قصصنا ومشاغباتنا مع المحتلّين، وعن حديثنا إليهم بالعبريّة الّتي كنّا نتعلّم بعضاً منها عندما كنا نزور جدّي وجدّتي وبقيّة أقاربنا في القدس، نقضي أشهر إجازة العطلة الصيفيّة هناك بين الأهل، ونتسامر مع الأطفال من جيلنا، ثمّ ما نلبث أن نعود إلى الأردن عند انتهاء التّصريح الّذي يسمح لنا بزيارة مدينة مولدنا وأجدادنا. للأسف مرّت السّنون، وما زال الغضب يطبق على قلوبنا، إذ ما زلنا إلى الآن نحتاج إلى إذن من المغتصبين لدخول أرضنا الّتي انغرست جذور أجدادنا فيها، في كلّ رحيل كان يسايرنا نفس الأمل بأنّنا عائدون لا محالة؛ نؤمن بعبارة والدتي ووالدي: (قد يطول الزّمن لكنّنا عائدون) .










