غير مصنف

التحكيم في منازعات أسواق المال: عدالة خاصة لواقع مالي متغير

بقلم : أ. أمل أصلان
المحاميه بالإستئناف العالى و مجلس الدولة

في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم المالي، بات من الضروري وجود آليات تسوية قانونية تواكب هذا التطور وتستوعب خصوصية المعاملات المالية الحديثة.

ويُعد التحكيم من أبرز هذه الآليات البديلة، التي تلعب دورًا حيويًا في تسوية منازعات أسواق المال، لما يتمتع به من مرونة وسرعة وسرية، تجعل منه الأداة الأنسب للفصل في النزاعات ذات الطابع الفني المعقّد والعابر للحدود.

أولًا: طبيعة منازعات أسواق المال

تتميز منازعات أسواق المال بأنها ذات طبيعة تقنية متقدمة، تنشأ غالبًا عن معاملات تشمل:

• تداول الأوراق المالية والأسهم والسندات
• المشتقات المالية (Derivatives)
• الصناديق الاستثمارية
• عقود الوساطة
• التداول الإلكتروني والبورصات الرقمية

وغالبًا ما تضم هذه النزاعات أطرافًا متعددة الجنسيات، وتخضع لتشريعات مختلفة، مما يجعل اللجوء إلى القضاء التقليدي أحيانًا غير مجدٍ أو بطيء في تحقيق العدالة المطلوبة.

ثانيًا: مزايا التحكيم في المجال المالي

التحكيم يمنح الأطراف المتنازعة في سوق المال مزايا لا توفرها المحاكم العادية، من أهمها:

1 السرية: ما يحمي السمعة التجارية والمالية للأطراف.
2 المرونة الإجرائية: إمكانية اختيار القواعد والإجراءات الأنسب لكل نزاع.
3 التخصص: إتاحة اختيار محكّمين ذوي خبرة فنية وقانونية دقيقة في التعاملات المالية.
4 سهولة التنفيذ الدولي: من خلال اتفاقية نيويورك لعام 1958، مما يضمن تنفيذ الأحكام في أكثر من 160 دولة.

ثالثًا: التحديات القانونية القائمة

رغم مزايا التحكيم، فإن هناك عددًا من التحديات التي لا تزال تواجه فعاليته في منازعات أسواق المال، أبرزها:

• عدم وضوح بعض بنود التحكيم داخل العقود المالية، مما يثير الجدل حول نطاق التحكيم.
• تضارب بعض القواعد القانونية بين الأنظمة الوطنية وتنظيمات السوق المالية.
• نقص الكوادر المتخصصة في التحكيم المالي، سواء من حيث المحكمين أو المحامين.

ويُضاف إلى ذلك غياب إطار موحد للتحكيم المالي على المستوى الدولي، مما يفتح الباب لتضارب في التفسير والتنفيذ.

رابعًا: التحكيم كأداة لتعزيز بيئة الاستثمار

التحكيم في منازعات سوق المال لا يُعد مجرد وسيلة لحل النزاعات، بل يُمثل عنصرًا جوهريًا في تحسين بيئة الاستثمار من خلال:

• تعزيز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي في النظام القانوني.
• تقليل زمن التقاضي، ما يحافظ على سيولة الأسواق.
• التخفيف من المخاطر القانونية التي تواجه المؤسسات المالية.

إن وجود منظومة تحكيم فعّالة في المجال المالي هو أحد أعمدة استقرار الأسواق، وركيزة أساسية في أي منظومة اقتصادية معاصرة تسعى لجذب الاستثمار وتحقيق العدالة المالية.

خامسًا: دور مكاتب المحاماة المتخصصة في التحكيم المالي

في ظل تعقيد منازعات أسواق المال، تبرز أهمية مكاتب المحاماة المتخصصة كعنصر فاعل في تقديم الحلول القانونية الذكية والمبتكرة. ويشمل دورها:

1 صياغة بنود تحكيم دقيقة ضمن العقود المالية، تتماشى مع طبيعة كل معاملة.
2 تمثيل العملاء أمام هيئات التحكيم الدولية بكفاءة مهنية وفنية عالية.
3 تقديم استشارات وقائية تحمي المؤسسات من الدخول في نزاعات مستقبلية.
4 تحقيق التكامل بين القوانين المحلية والمعايير الدولية لضمان حماية المصالح الاستثمارية.
5 المشاركة في تطوير الإطار التشريعي والمؤسسي للتحكيم في القطاع المالي.

وتقوم هذه المكاتب بدور محوري في إعادة تشكيل العلاقة بين المستثمر والقانون، ليس فقط من خلال الدفاع وقت النزاع، بل عبر صناعة بيئة قانونية مرنة ومطمئنة تحمي رأس المال وتدفع بعجلة النمو.

الخلاصة

أثبت التحكيم في منازعات أسواق المال أنه ليس خيارًا بديلًا، بل ضرورة قانونية فرضها واقع الأسواق الحديثة. ومع تصاعد تعقيد المنتجات المالية وتداخل القوانين، أصبحت العدالة الخاصة التي يوفرها التحكيم أكثر ملاءمة لحماية الحقوق وتحقيق الاستقرار.

ولأن نجاح منظومة التحكيم لا يكتمل إلا بوجود كوادر مهنية واعية، يبقى دور مكاتب المحاماة المتخصصة حجر الزاوية في دعم مسار العدالة الاقتصادية، وصناعة ثقة متبادلة بين القانون والسوق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى