موقع أخبار الناس اليوم
موقع أخبار الناس اليوم
موقع أخبار الناس اليوم
موقع أخبار الناس اليوم
previous arrow
next arrow

بقلم : د . سارة طه أحمد عثمان
ماجستير علم نفس الشخصية

الزواج ليس مجرد عقد شرعي بين طرفين.. بل هو حالة اجتماعية ونفسية تمثل اكتمالا لنضج الانسان واستعداده للاندماج في حياة تشاركية. يكون فيها كل من الزوجين سندا للآخر. وشريكا في مسيرة الحياة بكل تحدياتها. ومصدرا لبناء اسرة تساهم في ديمومة المجتمعات واستمرارها.

منذ القدم كان الزواج المبكر هو السائد. خاصة في المجتمعات العربية والشرقية. حيث كان يُنظر إلى بلوغ الفتاة أو الفتى كإشارة كافية للجاهزية للزواج. وغالبا ما كانت تتم الزيجات قبل سن السابعة عشرة.. لم يكن هذا التوجه نابعا من قلة الوعي أو البدائية كما يتعمد أن يروج البعض .. بل من منطلقات اجتماعية واقتصادية وثقافية راسخة. تهدف إلى الحفاظ على النسل.. وتعزيز الروابط الاسرية. واستثمار سنوات القوة الجسدية والنضج المبكر الذي كانت تفرضه البيئة.. خصوصا في المجتمعات البدوية أو الزراعية.

فالصحراء كانت تسرع النضوج وتكسب أبناءها فحولة الرجال وانوثة النساء في سن مبكرة.. وكانت التربية آنذاك تضع على عاتق الفتى مسؤولية الكد والدفاع.. وعلى الفتاة مسؤولية الرعاية والاحتواء. .

في مشهد حياتي ينمو فيه الانسان بسرعة تفوق أعمارنا الحديثة.. لم يكن غريبا أن تتزوج فتاة لم تكمل عقدها الأول.. وقد تهيأت للحياة الزوجية بفعل التكيف الفطري والمجتمعي ووعي موروث بالتحديات.

أما اليوم فقد تغيرت المعايير وتبدلت الحاجات.. بات الزواج المبكر يُنظر إليه باعتباره عائقا أمام نمو الشخصية. . لا سيما للفتاة التي تُنتزع من عالم الطفولة لتُزج في مسؤوليات تفوق عمرها وخبرتها. . فالطفلة التي تُزف إلى بيت الزوجية قبل أن تكتمل معارفها ومهاراتها العاطفية والنفسية. تعيش صراعا داخليا بين طفولة لم تنته وأنوثة مفروضة.. فتُصاب باضطرابات عاطفية قد تتطور إلى اكتئاب وانعدام ثقة وإحساس مزمن بعدم الجدارة أو الفقد.

كما أن الزواج المبكر فى العصر الحاضر أصبح ينظر إليه على أنه غالبا ما يحرم الفتيات من حقهن في التعليم ويمنعهن من اختبار مراحل الحياة كما ينبغي.. والأسوأ حين يُفرض عليهن دون إرادة أو وعي.. خاصة في بيئات تتسم بالعنف الأسري أو التهميش. . فتغدو الفتاة مجرد أداة تنفذ قرارات غيرها بلا حق في الاختيار أو الرفض.

ولذلك جاء تدخل القانون المصري ليحسم الأمر بتحديد الحد الأدنى لسن الزواج عند 18 عاما للذكور والإناث. . ومنع توثيق عقود الزواج لمن لم يبلغ هذا السن.. كما نص القانون على معاقبة كل من يخالف ذلك تأديبيا بموجب التعديلات القانونية لعام 2008.. وهو توجه يُعزز من حماية القاصرين ويمنحهم الفرصة لاكتمال نضجهم واتخاذ قراراتهم عن وعي واستقلالية.

ولا بد أن ترافق هذه القوانين حملات توعية شاملة من خلال وسائل الإعلام التقليدية والرقمية والبرامج الاجتماعية والندوات التثقيفية التي يشرف عليها مختصون في مجالات الإرشاد الأسري للتأكيد على مخاطر الزواج المبكر إذا كان بكيفية مغلوطه .. وضرورة التمهل قبل خوض هذه التجربة المصيرية مالم تكن مكتملة النضج .

لكن على الجانب الآخر ظهرت مشكلة جديدة في العصر الحديث.. وهي تأخر الزواج لا سيما لدى الفتيات.. وقد تبدو هذه المشكلة أقل خطورة للوهلة الأولى.. لكنها تحمل في طياتها أوجاعا من نوع آخر.. فقد أصبح الانخراط في التعليم العالي والسعي وراء الماجستير والدكتوراه هدفا لكثير من الفتيات. . لكن في بعض الحالات يتحول هذا السعي إلى هروب لا واعٍ من استحقاقات الحياة. .أو إلى وسيلة لإرضاء المجتمع أو الذات دون أن يُثمر فعليا.

في النهاية تمر السنوات وتجد الفتاة نفسها وقد بلغت الثلاثين أو تجاوزتها دون شريك و دون دعم.. وربما دون تقدير حقيقي لما بذلته من جهد. .يتسلل الشعور بالخيبة وتبدأ التساؤلات المؤلمة. . هل كان يستحق.. هل فاتني قطار الزواج بينما كنت أبحث عن لقب أكاديمي.. هل غفلت عن حقي في أن أحب وأكون أسرة.

فالتأخر في الزواج لا يعني دوما نضجا أو حرية.. بل أحيانا يكون نتيجة لسوء تقدير أو ضغوط مجتمعية أو انسياق خلف حلم الكمال الأكاديمي.. والأسوأ أنه لا يعوض الخسارة النفسية والاجتماعية الناتجة عن تأخر تكوين الأسرة.. مما يقود إلى وحدة عميقة وصراعات داخلية يصعب علاجها.

وبذلك فإن العودة للتفكير في الزواج المبكر – بشكل متوازن ومدروس – ليست دعوة للعودة إلى الوراء.. بل لإعادة النظر في أولوياتنا.. لا ضرر في الزواج المبكر إن توفرت له الشروط النفسية والتعليمية والصحية.. وتم برغبة حقيقية لا بضغط خارجي.. ولا خير في تأخير الزواج بلا هدف أو في إرجاء الشراكة الانسانية إلى أجل غير معلوم.. بينما يمضي العمر هباء.

لقد اختلف الزمن وتغيرت التحديات.. لكن تبقى الحقيقة ثابتة. . الزواج ليس توقيتا.. بل جاهزية.. وجاهزية الانسان لا تقاس بالسن فقط.. بل بالوعي والاختيار الحر والقدرة على العطاء والاحتواء.