د. محمد كامل الباز يكتب: ومن النعم ما قتل

غريبٌ أمرُ الإنسان؛ يعيش طوال عمره قانتًا غير راضٍ بما قسَّمه الله له، يصول ويجول، يسعى ويجري، وفي النهاية لا يأخذ إلا ما قد كتبه الله له. لكن، هل يرضى بهذا المكتوب؟ هل يقنع بهذا الرزق أم يسخط ويطغى؟
لو يرى حال غيره وابتلاءه، لهان عليه ما هو فيه. لو نظر لعيشة غيره، لفرح بحياته وصان نعمة الله. لو تفقد مريضًا في مستشفى أو مُبتلًى في مصيبة، لعرف أن نعم الله عليه تغمره من رأسه إلى أخمص قدميه.
إذن، فهل المطلوب منك فقط شكر الله في نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى؟ لا، بل هناك أيضًا ما هو أكبر من ذلك: أن تشكر الله في ابتلاءه! نعم، مطلوب منك أن تشكر الله وتصبر في البلاء لا أن تتسخط وتستمريء النعم.
لكن يظل السؤال الهام الذي يختلف عنده الكثير، وتتجادل بعده الجماهير: هل الابتلاء بالأحزان دلالة على حب الله؟ هل الابتلاء بضيق العيش وكدر الحياة معناه هوانك على الله؟ وفي المقابل، هل يكون سعة الرزق ورغد العيش دليلًا على حب الله ورسوله؟
الإجابة قولٌ واحد: لا، وألف لا. أبدًا لم يكن المبتلى الذي يُصاب دائمًا بالمصائب والأمراض مسخوطًا من الله، مطرودًا من رحمته. فهل هناك أحبُّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على الأرض؟
بالطبع لا.. لننظر في حياة المصطفى، نجد كل أنواع الابتلاءات التي تخطر على بالك قد أصابت المصطفى، من مشاكل مادية، اقتصادية، اجتماعية، عسكرية، بل وسياسية أيضًا. هل ابتلى الله عز وجل حبيبه كي يعاقبه، أم ليرفع درجاته حتى نال عليه الصلاة والسلام الوسيلة، وهي المنزلة الأعلى في جنة الرحمن؟
في المقابل -وهذا مفادنا من المقال- هل كان فتح باب النعم دلالة على حب الله؟ بالطبع لا. ولنا في المشركين وأعداء الله عز وجل خير مثال.. الكثير يظن أن أمريكا والغرب تعيش عيشة سعيدة ظاهريًا لأنهم أناس لا يكذبون أو يرتشون أو يذنبون. هذا عارٍ تمامًا من الصحة. إن باب النعم عندما يُفتح لإنسان بعيد عن الله وعن عبوديته،
تأكد يا صديقي أنها النقمة في ثوب النعمة. تأكد أن ما يحدث في حياتك من أموال وعقارات، من رزق وصحة جيدة، هي محنة وليست منحة، لأنك بعيد عن الله، بل سيزداد بعدك لأنك تماديت في العصيان والطغيان. حيث إن الابتلاء كان سيأتي ليفيقك ويُرجعك لخالقك، ولكنك مع ظلمك وبُعدك عن الله شعرت أنك على الطريق الصحيح، حيث إن حياتك أصبحت أفضل وصحتك باتت أحسن.
لم يخلق الله الكون ويتركه، بل جل جلاله هو المدبر الخالق المالك لكل شيء. يعرف ما يُصلح الإنسان وما يُفسده، فكثيرٌ يَصلح بضيق العيش وقلة الرزق، وكثيرٌ من الناس لا يصلح قلبه إلا مع الشدة والابتلاء. وهناك الأكثر من يَمُتْ قلبه ويَنتكِسْ فؤاده بسعة الرزق ورغد العيش. ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم:
واللفظ للبخاري، في الصحيحين أيضًا حيث قال: «وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
والله لقد أنجز المصطفى وأوضح المعنى الرئيسي. لم يخفِ المصطفى على أصحابه من الفقر، حيث إن تحمل الجوع والعطش أحيانًا يكون أهون من تحمل الشهرة والغنى، حيث أوضح ذلك حين قال أن الابتلاء الحقيقي والأصعب هو أن تُفتح لك الدنيا على مصراعيها، تنشغل بها وتخصص لها كل وقتك، تنسى كل شيء ويكون هلاكك عن طريقها كما حدث للسابقين.
إن الله أصابك -أيها المُحسن المؤمن- ببعضٍ من الابتلاءات كي يقوي قلبك ويزداد تعلقك بخالقك، بل وتزداد طاعتك له، بينما ترك ذلك المذنب المتمادي في طغيانه وكفره لأنه هان على خالقه وأصبح نَسْيًا مَنسِيًّا، وباتت تلك النعم المحيطة به هي السبب الرئيسي في ابتعاده عن خالقه لأنها ساهمت في نسيان حقه. فكما كان يقال إن «من الحب ما قتل»، كان عند هذا المفتون: «من النعم ما قتل».
وكما قال تعالى في كتابه في سورة الأنعام:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الأنعام: 44).