900
900
مقالات

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الإحتراف ودوره الحضاري

900
900

بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين

يعود مصطلح ” الحرفة “إلى الكسب وطلب المال وتَنميته، يقال: جاء بالإحراف إذا جاء بالمال الكثير، وفلان يَحرف لعياله؛ أي يكسب بعمله[1].

• ويقدم ابن منظور صاحب (لسان العرب)[2] استطرادات كثيرة وافية حول مصطلح الحرفة بين الاستعمالين اللغوي والاصطلاحي، فعند ابن منظور أن (الحِرفة) اسم من الاحتراف، وهو الاكتساب؛ يقال: هو يحرفُ لعياله ويحترفُ، ويقرش ويقترشُ، بمعنى يكتسبُ من ها هنا وها هنا، وقيل: المُحارَف، بفتح الراء: هو المحروم المحدود الذي إذا طلب فلا يرزق، أو الذي لا يسعى في الكسب..
وقد حُورف (كَسْبُ) فلان، إذا شُدِّد عليه في معاملته، وضُيِّق عليه في معاشه، كأنه مِيلَ برزقه عنه، من الانحراف عن الشيء، وهو الميل عنه، وفي حديث ابن مسعود: موت المؤمن بعرق الجبين: تبقى عليه البقية من الذنوب، فيُحارَف بها عند الموت؛ أي: يُشدَّدُ عليه لتُمحص ذنوبه، فوُضِع موضِع المجازاة والمكافأة، والمعنى أن الشدة التي تَعرِض له حتى يَعرَق جَبينه عند السياق، تكون جزاءً وكفارة لِما بقي عليه من الذنوب، أو هو من المُحارفة وهو التشديد في المعاش.

وفي التهذيب: فيُحارَف بها عند الموت؛ أي: يقايس بها، فتكون كفارة لذنوبه، ومعنى (عَرق الجبين): شدةُ السياق.
وفي حديث عمر – رضي الله عنه -: لحرفة أحدهم أشد عليَّ من عيلته؛ أي: إغناء الفقير وكفاية أمره أيسرُ عليَّ من إصلاح الفاسد، وقيل: أراد لعدم حِرفة أحدهم والاغتمام لذلك: أشدُّ عليّ مِن فقره.

والمُحترِفُ: الصانعُ. وفلان حريفي؛ أي: معاملي، وحرف في ماله حِرفة: ذهب منه شيء، وحرفتُ الشيء عن وجهه حرفًا.
والمُحرفُ: الذي نما مالهُ وصلَح، والاسمُ الحرفة.
• واحترفَ: كسب وطلب واحتالَ، وقيل: الاحتراف: الاكتساب أيًّا كان.
• وأحرف: إذا استغنى بعد فقرٍ، وأحرف الرجل: إذا كدَّ على عياله.
• وفي حديث عائشة – رضي الله عنها – لَما استخلف أبو بكر – رضي الله عنه – قال: لقد علِم قومي أن حِرفتي لم تكن تَعجِز عن مؤونة أهلي، وشُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا، ويحترف للمسلمين فيه.

والحِرفة: الصناعة وجهة الكسْب، وحريفُ الرجل: معامُله في حِرفته، وأراد باحترافه للمسلمين: نظره في أمورهم، وتثمير مكاسبهم وأرزاقهم، ومنه الأثر: إني لأرى الرجل يعجبني، فأقول: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط من عيني، وقيل: معنى الحديث الأول هو أن يكون من الحُرفة والحِرفة بالضم والكسر، ومنه قولهم: حِرفة الأدب بالكسر.

وللحرفة في الاستعمال المعاصر عدة تعاريف، أهمها تعريف المجمع اللغوي المصري بأنها: وسيلة للكسب من زراعة وصناعة وتجارة وغيرها، والحرفيّ: الشخص الذي يكسب عيشه بالعمل في حرفة مستمرة ومنتظمة.

والحرفة في معجم (مصطلحات القوى العاملة) هي:
الأعمال التي لا توجد قيود على مزاولتها، ولا تبذل أية جهود من قِبَل نقابات العُمال، أو هيئات غيرها للحد من الملتحقين بها.
• والمهنة تكاد تلتقي مع الحرفة في التعريفات القديمة والمعاصرة، فهي الحَذق بالخدمة والعمل ونحو ذلك؛ قال ابن الأثير: كثوب مَهنته؛ أي: بِذْلته وخِدمته.

والمهنة في الاستعمال الاصطلاحي المعاصر هي: العمل الذي يحتاج إلى خبرة ومهارة وحَذقٍ بممارسته.
• ومثل الحرفة والمهنة (الصنعة)، فهي – في القديم والحديث – إجادة الفعل، فكل صُنع فعل، وليس كل فعل صنعًا؛ قال تعالى: ﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾[3]، ويقال للحاذق المجيد: صانع، وللحاذقة المجيدة: صَناع، والصنع: الفعل الصادر عن الإنسان، والصناعة هي: حرفة الصانع، وعمله يسمَّى الصنعة، وقوم صناعية؛ أي: يصنعون المال ويُثمرونه، والمصنع: الموضع الذي تُمارَس فيه صناعة أو صناعات مختلفة.

• وهكذا نجد من خلال تتبُّعنا للاستعمال اللغوي والاصطلاحي لهذه المفردات الثلاث – (الحرفة والمهنة والصنعة) – أنَّ بينها تشابهًا كبيرًا، فكلها تدور حول أداء العمل بمهارة وإجادته، فالمحترف والمُمتهن هو الصانع، وحرفة الرجل: صنَعته ومَهنته، أما مصطلح الصنعة، فينفرد بارتباطه القوي بين الفعل والإجادة والإتقان، عن طريق تعلُّم الطريقة المنظمة للفعل تعلُّمًا كاملاً.
الارتباط بين العمل والاحتراف:

لقد هيَّأت تشريعات الإسلام لكل أفراد المجتمع الوسائل والظروف التي تُعينهم على إبراز كل مَلكاتهم وطاقاتهم؛ ليَسعدوا وتَسعد معهم الأمة كلها، وجدير بالذكر أن ما نراه في عالمنا من مظاهر التكافل، هو أمرٌ سبق الإسلام إليه، بل إن ما بلَغه المسلمون في عصور الازدهار لا يُتصوَّر حدوثه في عالم اليوم، فالإسلام يعمل على تزويج العاملين الذين لا يستطيعون الزواج، ويُسكنهم في مساكن تليق بهم، إذا لم يكن لهم مساكن [4]، وقد روى الإمام أحمد أن النبي قال: “مَن وَلِي لنا عملاً وليس له منزل، فليتَّخذ منزلاً، أو ليست له امرأة، فليتزوَّج، أو ليس له دابة، فليتَّخذ دابة”.

ولا يكفي – في الإسلام – أن تكون محترفًا أو عبقريًّا في مهنة عملية أو نظرية، بل لا بدَّ من العمل وتعمير الحياة؛ بتحويل هذه الحرفة إلى واقع يخدم الناس، ويبني المجتمع؛ ولهذا كان الاحتراف الصحيح قرين العمل في الإسلام، وفي الفكر المعاصر، والله يقول في كتابه: ﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾[5]، وهذا مبدأ صالح للتطبيق في كل المجالات الدينية والدنيوية.

والعمل – بالتالي – هو العنصر الفعال في طُرق الكسب التي أباحها الإسلام، وهو الدعامة الأساسية للإنتاج، وعلى قدر عمل المسلم، واتساع دائرة نشاطه، يكون نفْعه وجزاؤه، والأصل أن يشُبع الإنسان حاجاته المعيشية من ثمار عمله، ونتاج سَعيه إذا كان قادرًا على ذلك، وإلاَّ فإن حمايته ضد العَوَز تكون من مسؤوليات الدولة.

ويقرر الإسلام هذه الحماية على أساس أن الله هو الرزاق؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾[6]، لكن الله يفرض على الإنسان أن يسعى ويحصل على ما يُشبع به حاجاته، وفي هذا قال الله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾[7].

ومن الجدير بالذكر – في هذا المقام – أن الإسلام قاوَم بحزمٍ ما كانت اليونان القديمة وغيرها من الأُمم تُطبِّقه؛ حيث اعتبرت العمل من اختصاص الأرِقاء والطبقة الدنيا من البشر، وفي هذا قرر الإسلام أنْ ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن كل ميزة يحصل عليها أي فرد، إنما تقاس بما قدَّمه من عملٍ صالح لربه والناس؛ ولهذا رفع الإسلام قدْر العمل إلى منزلة العبادات، فقال تعالى: ﴿ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[8].

إن العمل يقتضي ألا تَصير حياة الإنسان لهوًا محضًَا، بل أن يكون أساسها، ومقياس التقويم فيها، هو العمل غير المصحوب بالغرور والإعجاب بالنفس، فقد ورد في القرآن: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ﴾[9]، وفي موضع آخر: ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ﴾[10]، وفي موضع ثالث: ﴿ نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ ﴾[11].

ولتقدير الإسلام لمكانة العمل وأثره، جعله سبيلاً لمغفرة الذنوب، وتأخير العقاب على السيئات، يقول الشاه ولي الله الدهلوي: “إن الحق لا يدع عاصيًا إلا جازاه في الدنيا مع رعاية نظام الكون”[12].
ويقول بعد ذلك: “وربما كان حكم النظام أوجبَ من حُكم الأعمال، فسيتدرج الفاجر، ويضيق على الصالح في الظاهر، ويصرف التضييق إلى كسْر غرائزه البهيمية”.

وهذا هو التفسير الكبير لاستمرار الحضارة الغربية حتى اليوم، فإن تأجيل معاقبة الناس على ذنوبهم في البلاد المتقدمة، يرجع إلى قوتهم في العمل، ورُقيِّهم في التعامل مع قوانين الكون، وليس لأن خواص السيئات قد تغيَّرت في هذا العصر، كما يقول بعضهم، ولا لأن القيم قد تغيَّرت فأصبحت السيئات حسنات، كلاَّ، ويدل هذا التحليل – بيقينٍ – على أهمية العمل، وأنه عبادة، وأنه فرَض عين في حالات، وفرض كفاية في حالات أخرى.

إن العمل – (ولا سيما الاحتراف) – ضروري؛ لأن فائدته لا تعود على العامل وحْده، بل على المجتمع بأسْره، وهنا يبرز الجانب الاجتماعي للعمل؛ إذ تتعلَّق به مصالح الناس المتزايدة على أساس حاجة المجتمع إلى نتاج هذا العمل، ولهذا كانت بعض الأعمال (فرض كفاية) في نظر الإسلام؛ كالزراعة والحدادة، والنسيج والتجارة، والطب والهندسة؛ أي: إن المجتمع كله – كوحدة متضامنة – يتحمَّل مسؤولية أداء هذه الأعمال، وإذا تعلَّقت هذه الأعمال بأفراد احترَفوها ومهَروا فيها، واحتاج إليهم المجتمع فيها، أصبحت (فرض عين) عليهم..

وجدير بالذكر أن مقدار الوجوب في هذه الأعمال يتفاوت حسب درجة أهميَّتها لتحقيق خير المجتمع، وهو الأمر الذي يتعيَّن معه على الدولة الإسلامية أن تعمل على إظهار ذوِي الكفاءة، وأن تَكفل لهم الراحة والاستقرار، وإذا كان القيام بهذه الأعمال مسألة واجبة تقع على عاتق الدولة والمجتمع، فإن مسؤولية الدولة تنصرف – كذلك – إلى مكافحة الأعمال السيئة التي تضر بدين المجتمع وقِيَمه، إذا لم يَمتنع أفراد هذا المجتمع بدافع التقوى والدين عن ممارستها.

إن تقديس العمل وإتقانه من القِيَم التي يَحرص الإسلام على غرْسها، والارتقاء بها إلى درجة العبادة، فكأن الإنسان في الإسلام خُلِق ليَعمل وليَحترف في نطاق العبودية الشاملة، والتي يُمثلها قوله الله تعالى: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾[13].
ومن ثم فإن الجزاء سيكون يوم القيامة على أساس العمل وإتقانه، ويجب أن يكون كذلك في الدنيا، والعمل الدنيوي النافع الخالص لوجه الله مثل العمل للآخرة؛ سواء بسواء.

إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة – ما رُؤي فارغًا في أهله قط؛ فإما يَخصِف نعْله، أو يَخيط ثوبه، أو ثوبًا لمسكين، وليس ذلك بغريب بعد أن قال الله تعالى له: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴾[14]؛ أي: فادخل في عمل آخرَ، ويُطابق ذلك قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[15].

إن قيمة العمل التي يتعين أن يَنشأ عليها الإنسان المسلم ذات أثرٍ في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بل إن أشد ما يواجه الدول النامية – ومعظمها من الدول الإسلامية – هو افتقارها لقيمة العمل؛ العمل المنتج، والعمل الاحترافي الذي يصل إلى حد الإبداع والإتقان (الإحسان)، وذلك في الوقت الذي يعتبر فيه العمل معيارًا وحيدًا للتفاضل بين الناس؛ كما في قوله تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾[16]، وقوله ﴿ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ﴾[17].

وهكذا يكون العمل الصالح بالطبع معيارًا وحيدًا في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الأساس فإن الإيمان مع العمل هو كل شيء، ولا يُجدي في الإسلام إيمان بلا عملٍ، كما أنه لا قيمة لعملٍ بلا إيمان، ولهذا قُرِن الإيمان بالعمل الصالح في المواطن التي ورَد الحديث فيها عن الإيمان في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾[18]، وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ ﴾[19] تدخل الدولة في العمل:

وإذا كان الأصل في علاقات العمل هو الحرية، فإن الدولة لها حق الإشراف والمراقبة والممارسة لجميع الأعمال، وهو ما يسمى بالحِسبة، ويطلق عليها في العصر الحديث (الشرطة المدنية)، أو البوليس المسؤول عن الأسواق والآداب العامة.
وكما أن للعُمال – ذكورًا وإناثًا – حقوقًا، فإن عليهم واجبات تقابل هذه الحقوق، ويكفي أن يقرِّر عبدالرحمن بن خلدون (ت808هـ) في مقدمته أن “الكسب هو قيمة الأعمال البشرية، وأن الإنسان متى اقتدَر على نفسه، وتجاوَز طَور الضَّعف، سعى في اقتناء المكسب”.

وقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لأن يأخذ أحدكم حَبله، ثم يغدو إلى الجبل فيَحتطب، فيَبيع فيأكُل، ويتصدَّق، خيرٌ له من أن يسأل الناس”[20].

ونظراً لأن لكل إنسان قدراته ومواهبه، فإن حق العامل في الأجر المناسب مكفول من جانب الدولة في الإسلام، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾[21].
أما واجبات العمال، فهي:
أولاً: الأمانة: وهنا لم يقتصر الإسلام على أدائها؛ بل نهى عن الغش فيها؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “من غشَّنا، فليس منا”[22].
ثانيًا: الإتقان: ولذلك يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾[23].
وفضلاً عن ذلك، فإن من واجبات العامل أن يفيَ بشروط العقد، ويجب أن يُحاسَب إذا قصَّر أو أهمَل في عمله، أو أساء استعمال سُلطته.

وأخيرًا:
إن الإسلام يدعو إلى مراقبة الله والخوف منه في كل شؤون الحياة؛ يقول الله تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾[24]، ويقول – جل شأنه -: ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾[25].
• • • • • •
موقف الرسول – عليه السلام – من الحِرَف:
عندما ظهر الإسلام جاهَد الرسول – صلى الله عليه وسلم – لتغيير المفاهيم الخاطئة لدى العرب عن الحِرَف؛ سواء بالتوجيه الكريم من الرسول – صلى الله عليه وسلم – أم بتطبيق الرسول – صلى الله عليه وسلم – لبعض الأمور التي تخالف هذا المفهوم عند العرب؛ حتى يرى أصحابه منه، وبالتالي يَقتدون به ويَنقلون ذلك إلى الناس[26].

لقد كان لدى العرب في العصر الجاهلي بعض الأعراف والعادات التي ساروا عليها، والتي أثَّرت عليهم في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، فقد كان العرب يحتقرون كثيرًا من الحِرَف، بينما كانوا لا يَأنَفون من الرعي ولا من التجارة، كما أن الزراعة كانت محترمة عند الحضَر، وأما البادية فكانوا يحتقرون الزراعة ويَأنَفون منها.
• أما الصناعة، فمنها ما هو مقبول عند العرب في الجاهلية؛ كالغزل والنسيج الذي ينتشر عند الحاضرة والبادية دون احتقار لمن يعمل ذلك عندهم.

• لكنهم – بعد ذلك – كانوا يحتقرون مَهنة الحدادة، ويسمون (الحداد) بالعبد أو بالقَين، وكلمة (القين) التي تعني (العبد الرقيق)، كانت مرتبطة (بالحداد) دائمًا.

• وفي جهاده – عليه السلام – لتغيير مفاهيم الناس الخاطئة نحو الحدادة، دفع الرسول بابنه إبراهيم إلى زوجة أبي سيف الحداد؛ لكي تُرضعه، وكان الرسول يأتي إلى منزل أبي سيف؛ ليرى ابنه إبراهيم ويجالس أبا سيف الحداد؛ حتى يرى الناس منه هذا السلوك، فيقتدوا به في عدم احتقار حرفة الحدادة التي كانت تعدُّ عندهم من أدنى الحِرََف..

وإلى جانب ذلك كان الرسول يعمل بيده الشريفة مع أصحابه الكرام، فقد عمِل مع أصحابه في بناء مسجد قُباء، وفي بناء مسجده – صلى الله عليه وسلم – كواحد من المسلمين، وكان يأبى على المسلمين أن يحملوا عنه الحجارة، ويحمل كما يحملون، وقد عمِل الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع المسلمين في غزوة الخندق، وكان يعمل في الحرف، حتى إنهم إذا عجزوا عن بعض الصخور قام – صلى الله عليه وسلم – بتكسيرها بيده الكريمة.

• ومن الأحاديث التي ورَدت في الحث على الكسب والعمل باليد، وطلب الرزق، ما رُوِي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “لأن يَحتطب أحدكم حُزمة على ظهره، خير ممن أن يسأل الناس أعطَوه أو منَعوه” [27]، كما ورَد عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “ما كسب الرجل كسبًا أطيب من عمل يده”[28]، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: “لأن المؤمن إذا لم يكن ذا حرفة، تعيَّش بدينه”[29].

كما ورد في الأثر عن عمر – رضي الله عنه – أنه إذا نظر إلى رجل فأعجبه، قال: هل له حرفة؟ فإن قالوا: لا، قال: سقط من عيني”.
• • • • • •
أهم الحِرَف في عصر الرسول:
وقد تعددت الحِرَف والصناعات التي بذَل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – جهده في إزالة النزعة الاحتقارية التي كان العرب يتعاملون بها؛ لأن الاحتقار يَحول دون العمل، ويَهدِم اقتصاد الأمة الإسلامية، ويتدخل في ارتفاع الأسعار، وقد يؤدي إلى الاحتكار الذي توعَّد الله فاعليه بالعذاب الأليم؛ قال – صلى الله عليه وسلم -: “من دخل في أسعار المسلمين ليُغَلِّيه عليهم، فإن حقًّا على الله – تبارك وتعالى – أن يُقعده بعظمٍ من النار يوم القيامة…”؛ رواه الإمام أحمد بإسناد جيد. أما عندما يكون سوق العمل رائجًا، فإن الاحتكار يكون صعبًا.

ولقد كانت جهود الرسول – صلى الله عليه وسلم – توحي بأن أي عملٍ شريفٍ يقوم على نية حسنة ووسيلة كريمة وهدف نبيل، هو عمل يُثاب المرء عليه، وهو عمل مطلوب للمجتمع كله، وللأفراد على السواء، وما كانت هذه الجهود إلا تمهيدًا لتغيير الأمة؛ حتى تؤمن بأن علوم المعاش مفيدة كعلوم الميعاد، وأنها كلها يمكن أن يُثاب عليها المرء في ظل النية والوسيلة والغاية، وكل عمل يُصبح عظيمًا عندما تتوافر فيه شروط الصلاح، والنفع والغاية، وفي الوقت نفسه فإن كل عمل يَفتقد النية الحسنة، والوسيلة الكريمة والغاية النافعة، هو عملٌ مرفوض، حتى ولو شاع بين الناس وأقرَّه العُرف؛ لأنه إذا تصادَم العُرف مع الشرع، لا ينظر إليه، فالمرابون مرفوضون وإن أتَوْا بحُججٍ واهية، وتُجار الفساد – بألوانه المختلفة – مرفوضون، وهكذا..

ومن أهم الحِرَف المعاشية التي رعاها رسولنا – صلى الله عليه وسلم – وشجَّع عليها: الحِرَف التالية:
1- الصيد:
وقد اشتَهر أناس في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالصيد وامتهانه؛ إما للعيش، وإما لكونه رياضة مفيدة، وكان من هؤلاء حمزة بن عبدالمطلب – رضي الله عنه – الذي اشتَهر بأنه صاحب صيد، وقد جاءت آيات القرآن؛ لتُبيِّن احتراف المسلمين للصيد؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾[30].
2- جمع الحطَب:
فقد كان جمع الحطب مصدرًا لرزق بعض الناس؛ حتى إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – شجَّع عليه، فقد قال: “لأن يأخذ أحدكم حبْله، فيأخذ حُزمة من حطبٍ، فيَبيع، فيكف الله به وجهه – خير من أن يسأل الناس؛ أُعطي، أم مُنِع”[31].
وقد وضع البخاري بابًا في صحيحه سمَّاه باب: (بيع الحطب والكلأ).
3- الرعي وتربية الحيوان:
قال تعالى ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾[32]، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وقد اهتم المسلمون بتربية الحيوانات؛ مثل: (الغنم – الإبل – الأبقار…).
4- الزراعة:
تعتبر الزراعة من أهم الحرف التي عرَفها الإنسان؛ لأنها تسد حاجة طبيعية لديه، فهي من أهم المصادر الأساسية للغذاء والكساء، ولقد شجَّع الإسلام على الزراعة؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ﴾[33].
5- التجارة:
كانت التجارة عند قريش إبَّان ظهور الإسلام من أعظم الحرف والمِهن التي عرَفها العرب قاطبةً، وقد نزَل القرآن؛ ليُبين أهمية التجارة عند العرب؛ قال تعالى: ﴿ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾[34]، ولم يمنع الإسلام التجارة حتى في مواسم الحج؛ لأن العمل الشريف عبادة إذا خضَع للضوابط التشريعية[35].
6- صناعة الأسلحة:
ولكي نؤكد اهتمام الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالعمل والاحتراف اهتمامًا مباشرًا، يتَّصل بمستوى إتقانهما وتطوُّرهما، نقدم نموذجًا رائدًا من اهتمامه – عليه السلام – بالحِرَف والصناعة، ويتمثل ذلك في حقل الأسلحة، وملاحقة التطورات التي طرَأت عليها في عصره، ونكتفي هنا بذكر أهم الأسلحة الحربية التي استخدمها وطوَّرها، والتي كانت توجَد في زمنه.

وهي:
أ- الدبابة: وهي عبارة عن عربة كانت تستخدم للاتقاء من السهام، وكانت تُصنع مغطاة بالجلد الغليظ، وتستخدم لهدْم الحصون.
ب- الضبر: كان يصنع بالخشب المغطى بالجلد، ويستخدم للاتقاء من السهام من الخلف.
جـ- المنجنيق: هو سلاح حربي يستخدم لرمي الأعداء بالحجارة.
د- الحسَك: هو سلاح ذو أشواك، يُفرش حول الحصن والمعسكر؛ حتى تَصير الطريق صعبة شائكة.

وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد حصل على هذه الأسلحة واستخدمها في غزوة الطائف، بل إنه كان أول من رمى بالمنجنيق ونثَر الحسَك، كما يقول ابن هشام، قال: “حدثني مَن أثِق به أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أول مَن رمى في الإسلام بالمنجنيق، رمى أهل الطائف”[36].
ويقول المقريزي: “ونصب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – المنجنيق على حصن الطائف”.

وفي موضع آخر: “نثر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الحسَك حول الحصن”، وهناك أقوال مختلفة في المنجنيق الذي استخدمه رسول الله، فقد ذكَر بعضهم أنه كان قد جِيءَ به من الخارج، وقال آخر: إنه كان من صُنع سَلمان الفارسي – رضي الله عنه.

وقد دخل في الإسلام (عروة بن مسعود الثقفي)، و(غيلان بن سلمة الثقفي) بعد فتْح الطائف في سنة (9هـ)، ثم ذهبا إلى جُرَش؛ ليَتعلَّما استخدام الأسلحة المذكورة.
7- حِرَف كثيرة أخرى:
وبالإضافة إلى ذلك هناك حِرَف علمية وصحية كثيرة أخرى، اهتمَّ بها الإسلام؛ مثل: (القراءة والكتابة، الترجمة، الطب، والتمريض، الحجامة، الحلاقة، العطارة، الصيدلة).
وهناك حرف عامة حثَّ الإسلام على الاشتغال بها؛ مثل: (الحدادة، الصياغة، التعدين، الخرازة، الخياطة، الصباغة)[37] وغيرها.
8- حرفة طلب العلم:
ولقد حثَّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على العلم والاحتراف بأساليب متنوعة، فقد قال مثلاً: “بُعثت معلمًا”.
وقال في القلم الذي هو أحد وسائل العلم: “إن أول ما خلَق الله القلم”، وبيَّن أن نتيجة العلم هي الرقي والعُلو، فقد ورَد في الأثر: “إن الحكمة تزيد الشريف شرفًا، وترفع المملوك حتى تُجلسه مجالس الملوك”.

وقد وسَّع الرسول نطاق العلم والاحتراف كثيرًا، ولم يحصره في نطاق ديني أو دنيوي واحد، فقال: “الكلمة الحكمة ضالة الحكيم، فحيث وجدها فهو أحقُّ بها”[38]، وقد كان أسلافنا يسافرون السفر الطويل الشاق للحصول على كل علمٍ نافع، حتى ولو كان الوصول إلى التحقق من صحة حديث نبوي شريف.
• • • • • •
الرسول – عليه السلام – “النموذج الأعلى للاحتراف”:
كان الأنبياء – عليهم السلام – جميعًا يحترفون، هذا ما أكَّدته حقائق الدين والتاريخ..

كان آدم – عليه السلام – مزارعًا، وكان نوح نجارًا صنَع السفينة بعون الله له، وكان إدريس حائكًَا، وزكريا نجارًا، وكانت مهنة رعاية الأغنام من أهم الحِرَف التي عرَفها الأنبياء – عليهم السلام).
ولم يكن الرسول محمد – عليه السلام – بِدعًا في هذا الطريق، فمن المعروف أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نشأ في مكة – المدينة التجارية الكبرى في جزيرة العرب – إلى جانب أنها المدينة المقدسة، وكانت لقريش رحلتان ثابتتان: إحداهما في الشتاء إلى اليمن؛ لأن اليمن أدفأُ، والثانية بالصيف إلى الشام..
ولما جاء (هاشم بن عبدمناف) سيد قريش، أمَر بنوع من التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين قريش كلها – غنيِّها وفقيرها – حتى اقترب غنيُّهم من فقيرهم، وظهر الإسلام وهم على ذلك، وبالتالي فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالاً ولا أعز من قريش.
وفي هذه البيئة ظهر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فكان أمرًا طبيعيًّا أن يَنزع الرسول إلى الرحلة بعد أن كان يرعى الغنم في صِغَره، ومن الوقائع الثابتة أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – خرج مع قوافل قريش عندما كان عمره يتراوح بين التاسعة والثانية عشرة، وذلك حين تعلَّق بعمه أبي طالب حين أزمَع السفر إلى الشام للتجارة، فأخذه معه في الرحلة التي التقى فيها أبو طالب بالراهب (بحيرا)، الذي تنبَّأ برسالة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وخشِي عليه من اليهود لو عرَفوه، فخرج به عمه أبو طالب سريعًا حتى أقْدَمه مكة حين فرَغ من تجارته بالشام، وهكذا نرى أن صلة الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالرعي تارة وبالتجارة تارة أخرى، بدأت معه – عليه السلام – بداية مبكرة؛ تأثرًا بالبيئة التي يعيش فيها، لكن الحدث التجاري الفاصل في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقع حين لجأت خديجة إلى محمد بن عبدالله؛ ليُضارب في مالها بعد أن بلَغها الكثير من صدق حديثه، وأيضًا لأمانته وكرَم أخلاقه، فلهذا عرَضت عليه – كما يقول ابن إسحاق – أن يخرج بمالها إلى الشام تاجرًا، وتُعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار، مع غلام لها يُسمَّى مَيسرة، فقبِل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذلك، وخرَج ومعه غلامها ميسرة، حتى قدِم الشام، ثم باع الرسول سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، الذي حكى لخديجة عن أمانته وتوفيق الله له ما شاء الله له أن يحكي، ورأت خديجة أيضًا أن أرباحها ضُوعِفت، فرَغِبت فيه زوجًا، وكانت أسنَّ منه، وكانت أوسط نساء قريش نسَبًا، وأعظمهن شرَفًا، وأكثرهن مالاً، وكل قومها كان حريصًا على ذلك منها لو قدروا عليه، وكانت له نعم الزوج.

ونحن نستخلص من تحليلنا لسلوك الرسول – صلى الله عليه وسلم – الاحترافي، أنه – صلى الله عليه وسلم – مارَس الرعي ثم التجارة منذ الصغر، وأن سُمعته التجارية الطيبة ولقبه (الأمين)، جعل السيدة خديجة تختاره للتجارة أولاً، ثم تختاره زوجًا ثانيًا، فأمانة الإنسان سبيل نجاحه، وهي أهم رأس مال يستثمره الإنسان في التجارة، فإذا اجتمع مع الأمانة الصدق – كما اجتمع للرسول صلى الله عليه وسلم – توافَرت له الأرضية التجارية السليمة، فإذا أضَفنا إلى ذلك ذكاء الرسول – صلى الله عليه وسلم – وقوته ومهارته؛ أي: جمعه – صلى الله عليه وسلم – بين القوة والأمانة والصدق، أدركنا كيف تحقَّق في شخصية الرسول النموذج المثالي الذي يُشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ ﴾[39].

ومما نستخلصه في هذا التحليل أيضًا الإشارة إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ضرَب المثل بنفسه على أهمية العمل، وها هو أمامنا قد عمِل قبل الرسالة في الرعي والتجارة، وها هو بعد الرسالة يعمل في بناء المسجد، وفي حفر الخندق، وفي جمع الحطَب، ويعمل في خدمة أهله.

وبما أننا نميل إلى أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – كان له نوع إشرافٍ على تجارة خديجة بعد زواجه منها؛ أي: إنه ظل محترفًا للتجارة بطريقة ما، وأنه لا بد أن يكون له حضوره؛ إشرافًا وتوجيهًا وتخطيطًا ومراقبة، فلهذا نؤمن بأن خبرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – التجارية المستمرة في مكة، قد أعانته كثيرًا على تنظيم الشؤون الاقتصادية والتجارية في مكة، بل إنه أظهر عبقرية في معالجة بعض الأزمات الاقتصادية، ونحن نعد إنشاءَه الأسواق – خاصة في المدينة في مواقع متميزة – من الأدلة على ذلك، وكما أننا نعد تنظيمه – صلى الله عليه وسلم – لأسلوب التكافل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع المدينة الناشئ، الذي يضم أصحاب البلد بثرواتهم، ووافدين بلا ثروات وليس لهم إلا خِبراتهم السابقة، من أقوى الأدلة على عبقريته الاقتصادية.
يُضاف إلى ذلك تقديره لقيمة العمل الحِرَفي واليدوي، والزراعي والصناعي، وإفساحه المجال أمام المرأة المسلمة؛ ليكون لها حضورها في بناء الاقتصاد الإسلامي.

إنه الوحي الصادق مع العقل الواعي مع الخلق الزكي الراقي.
وعلى الله قصد السبيل، وهو وليُّ التوفيق
________________________________________
[1] إسماعيل بن حماد الجوهري؛ تابع اللغة وصحاح العربية، مادة (حرف).
[2] ابن منظور؛ لسان العرب، مادة حرف، ط/ دار المعارف.
[3] النحل : 88.
[4] نبيل السمالوطي؛ البناء الاجتماعي للمجتمع الإسلامي، ص: 193، رابطة الجامعات الإسلامية – القاهرة.
[5] الصف: 3.
[6] هود : 6.
[7] الملك : 15.
[8] المزمل : 20.
[9] التوبة : 114.
[10] النجم : 39.
[11] هود : 15.
[12] محمد تقي الأميني؛ الإسلام تشكيل جديد للحضارة، دار العلوم (الرياض) للطباعة والنشر (1402هـ – 1982م)، ص:228.
[13] التوبة : 105.
[14] الشرح : 7.
[15] الجمعة : 10.
[16] النحل : 97.
[17] النساء : 123.
[18] الكهف : 107.
[19] مريم : 96.
[20] رواه الشيخان والنسائي.
[21] الأعراف : 85.
[22] رواه الترمذي.
[23] موسوعة الإدارة العربية الإسلامية، الناشر: المنظمة العربية للتنمية الإدارية، مصر – القاهرة،
(1424هـ – 2004م) 5/186 – 193، سورة سبأ : 37.
[24] فاطر : 10.
[25] الكهف : 110.
[26] د/ عبدالعزيز العمري؛ الحرف الصناعية في الحجاز في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم، ص: 45، نشر مركز التراث الشعبي، لدول الخليج ، قطر ط/1 1985م.
[27] رواه البخاري.
[28] رواه ابن ماجه.
[29] الخطيب البغدادي؛ الجامع لأحكام الراوي وآداب السامع 1/34، الكويت (1401)، وانظر: العمري؛ الحرف والصناعات في الحجاز في عصر الرسول – صلى الله عليه وسلم، ص: 45، قطر ، ط/1 1985م.
[30] المائدة : 94.
[31] رواه البخاري .
[32] الأنعام : 5 – 8.
[33] الأنعام : 141.
[34] سورة قريش 1- 4.
[35] محمد تقي الأميني؛ الإسلام تشكيل جديد للحضارة، ص:220.
[36] محمد تقي الأميني؛ الإسلام تشكيل جديد للحضارة ، ص: 221.
[37] انظر في تفصيل هذه الحرف؛ عبدالعزيز العمري؛ الحرف والصناعات في الحجاز، الفصل السادس والسابع.
[38] محمد تفي الأميني؛ الإسلام تشكيل جديد للحضارة، ص:219.
[39] القصص : 26.

اترك تعليقك ...
900
900
زر الذهاب إلى الأعلى