د . محمد كامل الباز يكتب : بين الإبتلاء والبلاء

أحد الكُتّاب المتنورين، المثقفين، البارعين، من ذوي الرؤية الثاقبة والرأي السديد كان يتساءل ويكتب في سخرية:
لماذا يزعم أصحاب الرأي المحافظ أن موت فلان (وأخذ يعد أمثلة من أناس هاجموا الدين والثوابت صراحة) أن مرضهم أو موتهم كان بلاءً وعقوبة؟!
ألم يمرض ويمُت (وأخذ يعدد أمثلة من علماء الدين)؟
لماذا هنا يكون شيء وعند هؤلاء شيء آخر؟ كفاكم (وما زال الكلام للأخ المتنور) توزيع الرحمات والابتلاءات حسب أهوائكم، الموت يأتي الجميع، صالحهم وفاسدهم.
أخذت أفكر في كلمات هذا المثقف البارع، اندهشت كثيرًا، كيف لرجل متعلم ومثقف وصل لأعلى درجات الفكر أن يعجز عقله عن فهم الفرق بين مآل شخصين كان حالهما واحدًا!!
بمعنى آخر، كيف لإنسان مبدع ومثقف أن يساوي بين موت إنسان ظاهره صالح وآخر ظاهره مفسد وطالح!!
هل أخبره أحد قبل ذلك أن الصالحين لن يموتوا؟! أم تراه سمع أن المرض لا يفتك بجسد مؤمن؟!
ما هذا الهراء! وكيف مثل هؤلاء السذج يستطيعون التأثير في عقول البسطاء!!
لو أتعب نفسه هذا الكاتب ودخل في مفهوم الابتلاء لراح واستراح، لو علم ما أقره الشرع من أجر ومكافأة لكل ابتلاء لأحد من المؤمنين، لعلم أن الابتلاء يصيب المؤمن، بل ومن الممكن أن تفوق حدته ذلك الذي يصيب غير المؤمن، لكن جاء هذا لسبب وذاك لسبب آخر!!
من سنن الله عز وجل في الكون مع عباده الابتلاء، وهو أن يُصابوا بألم وحزن يُكدر عليهم معيشتهم، حيث إننا في دار اختبار ولسنا في دار قرار.
قد يفقد المؤمن أحد أحبائه، قد يمرض، قد يفقد مالًا أو وظيفة، قد يُحرم من رزق أو ذرية، الشاهد أن كون العبد مؤمنًا – يا سيادة المثقف – ليس عندنا صكًا مباشرًا بتحرّمه من الابتلاء والأزمات، بل أزيدك من الشعر بيتًا: كلما زاد صلاح العبد وإيمانه زاد ابتلاؤه واختباره.
يرد مثقف آخر: إذن أيضًا عندما يمرض أحد العصاة أو المتكبرين فهذا ابتلاء!!
نرد عليه ونقول: إن كله عند الله بمقدار، هو خالق الكون ومدبره، لكن الابتلاء والبلاء أنواع:
منها ما يأتي للعبد لإرجاعه عن طريقه وعودته لطريق الحق.
ومنها ما يأتي تكفيرًا للذنوب، حيث إن الله يحبه ويريد أن ينهي حسابه الثقيل في الدنيا بمرض أو ضيق أو مصيبة.
ومنها أيضًا ما يكون رفعًا للدرجات وزيادة في المراتب والهبات، وهذا لا يكون إلا لأتقى الناس من الصديقين والشهداء.
وإلا فمن أكثر الناس ابتلاء؟ بالطبع الأنبياء ثم الصالحون فالأصلح، يبتلى المرء على قدر دينه.
ومن أكثر الناس ابتلاءً في الدنيا كان أعظمهم عند الله، وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي ابتُلي تقريبًا بكل شيء:
فقد أولاده جميعًا في حياته عدا فاطمة، هُجِّر من أرضه ووطنه، اتُّهم بالسحر والجنون، حوصِر مع أهله حتى ربط بطنه بالحجارة من الجوع، عُذِّب، حورب، طُعن في شرفه وعِرضه، فقد أحباؤه في أُحد ومؤتة وحنين والرجيع… بالله عليكم، هل يحتمل أحدنا كل هذا البلاء؟! أم ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبيب الله قد هان عليه لذا ابتلاه؟!
عندما يأتي الابتلاء للعبد المؤمن ويصبر عليه، فاعلم عزيزي أنها المنحة في ثوب النقمة، العطاء في شكل البلاء.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أهل الابتلاء يوم القيامة: إن أصحاب العافية (الذين عاشوا دنياهم بقليل من الابتلاءات والمصائب) ينظرون إلى أهل البلاء ويرون درجاتهم في الجنة، فيتمنون لو عادوا للدنيا ليُقرضوا بالمقاريض كي يأخذوا هذه المكافأة التي شاهدوا أهل الجنة فيها. سيندم كل معافى على عافيته، ويتمنى أن يرجع ليُبتلى لما وجد من أجر لأصحاب الابتلاء.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم:
«من يرد الله به خيرًا يُصب منه» (رواه البخاري).
يا صديقي المتنور، إن إصابة العالم الفلاني بمرض خطير أو فقد المناضل العلاني لكل أسرته، ليس لأنهم هانوا على خالقهم، بل هو خير لهم وزيادة في أجرهم. إن فقر هذا العامل المؤمن الحريص على أداء فروض المولى ليس إلا أن الله يُدخر له الأجر في الآخرة، وإلا لكان استمرار العصاة في نعيمهم وفرحتهم وهم يبارزون الله بالمعاصي خيرًا لهم من الصالحين المبتلين!!
لكن هل هذه فقط أنواع الابتلاء والبلاء؟ بالطبع لا. فهناك نوع هام سيعجب هذا المتنور الذي لا يعترف إلا بالعقل، وهو البلاء الذي يصيب المتجبرين الطغاة. بالتأكيد أنه ليس تطهيرًا للذنوب أو رفعة للدرجات، وهذا ليس كلامي بل كلام الشرع والقرآن الذي أقر أن غرق فرعون وهامان كان تمهيدًا لعذابهما في الدرك الأسفل من النار. موت النمرود بمرض غريب ناتج عن دخول ذبابة لأذنه، هل كان رفعًا للدرجات أم كان عقوبة!!
وهذا هو لب الموضوع الذي يصعب على عقل المتنورين فهمه؛ هو يرى أن المرض قد أتى لإنسان صالح وآخر متجبر ظالم، فهو حال واحد!! كلا وألف كلا، فقد حسم الشرع ذلك اللغط وأكد أن الابتلاء لأهل التقوى والصلاح يكون تكفيرًا لذنوبهم، أما لأهل الشر والفساد فيكون عقابًا لهم.
مات حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في أُحد، ومات أبو جهل قبله بعام… هل تساويا في المآل رغم اتفاق الحال؟!
قُطعت رأس نبي الله يحيى وقُدمت لبغي من بغايا بني إسرائيل، وقُطعت رأس المجرم دراكولا… هل يتساويان؟!
إن من عدل الله عز وجل مع عباده أن يقدم لهم الابتلاء كي يكفّروا عن سيئاتهم في الدنيا ويقلّ عقابهم في الآخرة، ومن تمام عدله أيضًا أن يُصيب الظالمين بالبلاء ليكونوا عبرة للناس في الدنيا قبل أن يلقوا العذاب في الآخرة.
وكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:
«مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشاكها إلَّا كفَّر الله بها من خطاياه» (متفق عليه).
وفي لفظ آخر: لا يكون هذا إلا للمؤمن، التقي، عبد الله الذي وحَّده ولم يشرك به، لم يبارزه بالمعاصي والفجور، سار على منهجه ودربه.
أما الآخرون فليسوا في هذا الحديث – يا صديقي المتنور – هم يعيشون كما يعيش الصالحون، يأكلون كما يأكلون، يشربون كما يشربون، يفرحون كما يفرحون، أيضًا يُبتلون كما يُبتلون، ولكنهم… لا يرجون من الله كما يرجون.