مقالات

حين يتحول التفوق العلمي إلى عبء نفسي

بقلم / د. سارة طه أحمد عثمان
ماجستير علم النفس الشخصية
باحثه دكتوراه علم النفس الشخصية

ليس أقسى على النفس من أن تمضي عمرك في تسلق الجبال.ثم تكتشف أن القمة التي كنت تحلم بها ليست أكثر من هاوية إجتماعية.
أن تملأ صدرك بالعلم أملأ في النهوض بوطنك.

ثم تجد أن الوطن نفسه هو من يسحبك إلى الأسفل. ببطء. بصمت. بإنكار.
في زمن يفترض أنه يثمن العلم.. تعيش شريحة واسعة من العلم واقعا مغايرا تماما.. تبدد فيه الحلم .

حين يقصى الإنسان عن دوره الطبيعي في الحياة. تبدأ بنيته النفسية في التآكل والمعاناة.

وحين يكون هذا الإقصاء لا بسبب ضعف أو تقصير. بل نتيجة خلل مؤسسي مزمن. يصبح الألم مضاعفا. وتتحول الأزمة من شأن فردي إلى أزمة مجتمعية.

ليست القضية إذن قضية فئوية كما يروج البعض.. بل هي قضية رأي عام.. إذ يتجاوز أثرها الفرد ليصيب الأسرة والمجتمع في جوهره.. حين يهمش العقل.. فإن أول ما يصاب بالتيه هو الضمير الجمعي بما يحويه .

حملة العلم من الشهادات العليا لا يرون أنفسهم مجرد عاطلين. . بل معطلين قسرا عن أداء أدوارهم. عن تحقيق ذواتهم عن خدمة أوطانهم .بما يحملونه من فكر ورؤية.

ومع مرور الوقت.. يتولد شعور عميق بإنعدام الجدوى. . يفضي إلى تدهور في تقدير الذات.. وإلى اكتئاب صامت وقلق دائم وإحساس داخلي بالخيانة.. لا خيانة الوطن لهم فحسب .. بل خيانة أحلامهم التي وعدتهم أن للعلم ثمنا . . فإذا به ثمن نفسي مدفوع بالكامل من أرواحهم.

تنعكس هذه المعاناة النفسية على محيطهم الأسري.. الزوج أو الزوجة يفقدان الإحساس بالثقة والأمان.

وتصبح الحياة اليومية مسرحا لمعارك خفية. . بين أنين الصمت وضجيج الغضب.. بين الحزن المضقع والكتمان الموجع .

الأبناء ينظرون بعين الحيرة.. لماذا لا يجد من تعب ودرس واحترق من أجل علمه وظيفة تليق به؟

الأسئلة تتكاثر .. تخترق الجدران التي تحاول الأسر أن تبنيها لحماية ما تبقى من كرامة .. ومع تزايد الضغوط بمرارة تبدأ الانهيارات الصغيرة التي قد لا ترى.. لكنها توجع القلب فيتوارى الأسوأ من كل هذا أن انعكاس هذه الأزمة يتجاوز حدود الفرد والأسرة إلى جو المجتمع العام.

حين يرى الناس أن من يحمل أعلى الشهادات يعيش في هامش الحياة. . تبدأ القيم في الإنهيار .

لا يعود العلم وسيلة للإرتقاء.. بل عبئا قد يفضي إلى خيبة رجاء ..
تتزعزع الثقة في منظومة التعليم.. وتستبدل قيمة المعرفة بقيمة العلاقات والجهد بالتحايل والطموح بالاستسلام.

يتشوه الوعي الجمعي.. ويفقد الناس إيمانهم بأن العلم طريق للكرامة. فيسود الجهل بجداره.

ليس المطلوب .. الشفقة على هذه العقول.. بل الاعتراف الحقيقي بقيمتها وما تؤول .

المطلوب أن نعيد دمجهم في الحياة العامة.. وأن نمنحهم الفرصة ليكونوا كما يستحق أن يكونوا . . بناة أفق واسع لا ضحايا واقع.

فهؤلاء ليسوا عبئا على المجتمع.. بل ضوءها إن أتيح لهم أن يضيئوا. . وإن تجاهلناهم.. فإننا لا نطفئهم وحدهم. بل نطفئ فينا نحن شعلة المستقبل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى